فصل: سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الأولى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون الأولى على مصر

هو السلطان الملك الناصر أبو الفتوح ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي النجمي الألفي سلطان الديار المصرية وابن سلطانها مولده بالقاهرة في سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل ووالده الملك المنصور قلاوون يحاصر حصن المرقب وجلس على تخت الملك بعد قتل أخيه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون في يوم الاثنين رابع عشر المحرم وقيل يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم من سنة ثلاث وتسعين وستمائة لأن الملك الأشرف قتل بتروجة في يوم السبت ثاني عشر المحرم وقتل قاتله الأمير بدر الدين بيدرا في يوم الأحد ثالث عشر المحرم ثم اتفقوا على سلطنة الملك الناصر محمد هذا عوضًا عن أخيه فتم له ذلك‏.‏

فتكون سلطنته في أحد اليومين المذكورين تخمينًا لما وقع في ذلك من الاختلاف بين المؤرخين‏.‏

انتهى‏.‏

والملك الناصر هذا هو السلطان التاسع من ملوك الترك بالديار المصرية ولما استقر في السلطنة رتبوا الأمير زين الدين كتبغا المنصوري نائب السلطنة بالديار المصرية عوضًا عن بيدرا والأمير علم الدين سنجر الشجاعي وزيرًا ومدبرًا للمملكة وأتابك العساكر ثم قبضوا على جماعة من قتلة الملك الأشرف خليل حسب ما تقدم ذكره وتم ذلك ودام إلى العشرين من صفر‏.‏

فبلغ الأمير زين الدين كتبغا أن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي يريد الوثوب عليه وقبضه وقتله‏.‏

وكان الذي أخبره بذلك سيف الدين قنق التتاري وأعلمه بما في باطن الشجاعي والسبب في اطلاعه على ما في باطن الشجاعي أن هذا قنق هاجر من بلاد التتار في زمن الملك الظاهر بيبرس وأقام بمصر وأقطع في الحلقة فرزقه الله تعالى اثني عشر ولدًا كلهم ذكور منهم‏:‏ ستة أولاد في خدمة الملك الأشرف وخمسة في خدمة الشجاعي وواحد منهم صغير وجميع أولاده شباب ملاح من أجمل الناس صورة‏.‏

وكان لقنق هذا منزلة عظيمة عند الشجاي وكلمته مسموعة وشفاعته مقبولة وله طلاع على أمور الدولة بسبب أولاده فعلم بما دبره الشجاعي فحملته الجنسية حتى أعلم الأمير كتبغا على ما في باطن الشجاعي فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم الأمراء بالخبر وكان الأمراء كارهين الشجاعي‏.‏

فلما كان يوم الخميس ثاني عشرين صفر ركب الأمير كتبغا إلى سوق الخيل فنزل إليه من القلعة أمير يقال له علم الدين سنجر البندقداري وقال له من قبل الشجاعي‏:‏ أين حسام الدين لاجين المنصوري أحضره الساعة فقال له كتبغا‏:‏ ما هو عندي وكان لاجين من يوم قتل الأشرف قد اختفى والمماليك الأشرفية قد أعياهم أمره من كثرة التفتيش عليه فقال له البندقداري‏:‏ بلى لاجين عندك ثم مد يده إلى سيفه ليضربه به فجذب سيف الدين بلبان الأزرق مملوك كتبغا سيفه وعلا به البندقداري من ورائه وضربه ضربة حل بها كتفه ويده ثم إنهم تكاثروا عليه وأنزلوه عن فرسه وذبحوه وهم مماليك كتبغا وذلك في وسط سوق الخيل ومال غالب العسكر من الأمراء والمقدمين وأجناد الحلقة والتتار والأكراد إلى كتبغا وانضموا عليه ومالت البرجية وبعض الخاصكية إلى سنجر الشجاعي لأن الشجاعي كان أنفق فيهم في الباطن في يوم واحد ثمانين ألف دينار واتفق معهم أيضًا أن كل من جاء برأس أمير كان له إقطاعه وكان الاتفاق معهم أنه في يوم الخميس وقت الموكب لما يطلع الأمير كتبغا إلى القلعة ويمدوا السماط يمسك هو ومن اتفق معه من الأمراء يقبضون عليهم‏.‏

فآستعجل البندقداري ونزل إلى سوق الخيل وفعل ما ذكرناه‏.‏

ولما وقع ذلك تحقق الأمراء صحة ما نقل إليهم الأمير زين الدين كتبغا عن الشجاعي فاجتمع في الحال الأمراء عند كتبغا بسوق الخيل وركبت التتار جميعهم وجماعة من الشهر زورية والأكراد وجماعة من الحلقة كراهية منهم في الشجاعي وخرج الشجاعي بمن معه إلى باب القلعة فإن إقامته كانت بالقلعة وأمر بضرب الكوسات فضربت وبقي يطلب أن يطلع إليه أحد من الأمراء والمقدمين فلم يجبه أحد وكان قد أخرج صحبته الذهب في الصرر وبقي كل من جاء إليه يعطيه صرة فلم يجىء إليه إلا أناس قليلون ما لهم مرتبة‏.‏

وشرع كتبغا ومن معه في حصار القلعة وقطعوا عنها الماء وبقوا ذلك اليوم محاصرين‏.‏

فلما كان ثاني يوم نزلت البرجية من القلعة على حمية وتلاقوا مع كتبغا وعساكره وصدموه صدمة كسروه فيها كسرة شنيعة وهزموه إلى بئر البيضاء وتوجه كتبغا إلى جهة بلبيس فلما سمعوا باقي الأمراء بذلك ركب الأمير بدر الدين بيسري المنصوري والأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح بقية العساكر المصرية وتوجهت الجميع إلى نصرة الأمير كتبغا وأصحابه وقاتلوا المماليك البرجية حتى كسروهم وردوهم إلى أن أدخلوهم إلى قلعة الجبل ثم جدوا في حصار القلعة ومن فيها وعاد الأمير كتبغا وقد قوي عضده بخشداشيته والأمراء ودام الحصار على القلعة إلى أن طلعت الست خوند والدة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السور وكلمتهم بأن قالت لهم‏:‏ أيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم فقالوا‏:‏ ما لنا غرض إلا مسك الشجاعي وإخماد الفتنة ونحن لو بقيت بنت عمياء من بنات أستاذنا الملك المنصور قلاوون كنا مماليكها لا سيما وولده الناصر محمد حاضر وفيه كفاية فلما علمت ذلك رجعت واتفقت مع الأمير حسام الدين لاجين أستاذ الدار وغلقوا باب القلة من القلعة وهي التي عليها المعتمد وبقي الشجاعي بداره بالقلعة محصورًا‏.‏

فلما رآه أصحابه أنه في أنحس حال شرعوا في النزول إلى عند الأمير كتبغا فبقي جمع الشجاعي يقل وجمع كتبغا يكثر إلى يوم السبت رابع عشرين صفر ضجر الشجاعي وطلب الأمان فلم يوافقوه الأمراء وطلع وقت صلاة الظهر بعض الأمراء وجماعة من الخاصكية وفيهم آقوش المنصوري إلى عند الشجاعي يطلبونه إلى عند السلطان وإلى والدته في صورة أنهم يريدون يستشيرونه فيما يعملون فمشى معهم قليلًا وتكاثروا عليه المماليك وجاء أقوش من ورائه وضربه بالسيف ضربة قطع بها يده ثم بادره بضربة ثانية أبرى بها رأسه عن جسده وأخذوا رأسه في الحال ورفعوه على سور القلعة ثم عادوا ونزلوا به إلى كتبغا ودقوا البشائر وفتحوا باب القلة وأخذوا رأس الشجاعي وجعلوه على رمح وأعطوه للمشاعلية فجبوا عليه مصر والقاهرة فحصل المشاعلية مالًا كثيرًا لبغض الناس قاطبة في الشجاعي فقيل‏:‏ إنهم كانوا يأخذون الرأس من المشاعلية ويدخلونه بيتهم فتضربه النسوة بالمداسات لما في نفوسهم منه وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوعه في الظلم والعسف حسب ما يأتي ذكره في الوفيات بأوسع من هذا وأغلقت القاهرة خمسة أيام إلى أن طلع كتبغا إلى القلعة في يوم الثلاثاء سابع عشرين صفر ودقت البشائر وفتحت الأبواب وجددت الأيمان والعهود للملك الناصر محمد ولما تم ذلك قبض كتبغا على جماعة من الخاصكية والبرجية المتفقين مع الشجاعي ثم أفرج عن جماعة من الأمراء كان قبض عليهم في المخيم وهم‏:‏ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على ما يأتي ذكره والأمير سيف الدين برلغي والأمير القمامي وسيف الدين قبجق المنصوري والأمير بدر الدين عبد الله وحامل الجتر والأمير سيف الدين بوري السلاح دار والأمير زين الدين عمر والأمير سيف الدين قرمشي والأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي وغيرهم وأخذ أمير زين الدين كتبغا وأعطى في الملك وانفرد بتدبير الأمر ومشى مع الملك الناصر محمد مشي المملوك مع أستاذه‏.‏

ثم بعث بتقليد نائب الشام على عادته وهو الأمير أيبك الحموي‏.‏

ثم بعد ذلك نزل السلطان الملك الناصر محمد من قلعة الجبل في موكب هائل بأبهة السلطنة وتوجه إلى ظاهر القاهرة ثم عاد وشق القاهرة ودخل من باب النصر وخرج من باب زويلة عائدًا إلى القلعة والأمراء مشاة بين يديه حتى الأمير كتبغا وكان ذلك في يوم الأحد رابع عشرين شهر رجب ولما كان سابع عشرين شهر رمضان ظهر الأمير حسام الدين لاجين المنصوري من اختفائه واجتمع بالأمير كتبغا خفية فتكلم كتبغا في أمره مع الأمراء فاتفقوا على إظهار أمره لما رأوا في ذلك من إصلاح الحال فطيب كتبغا خاطر الأمير حسام الدين لاجين ووعده أن يتكلم في أمره مع السلطان والمماليك الأشرفية‏.‏

ولا زال كتبغا بالسلطان والحاشية حتى رضاهم عليه وطيب قلوبهم إلى أن كان يوم عيد الفطر ظهر حسام الدين لاجين من دار كتبغا وحضر السماط وقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر محمد فخلع عليه السلطان وطيب قلبه ولم يعاتبه بما فعل مع أخيه الملك الأشرف خليل مراعاة لخاطر كتبغا ثم خلع عليه الأمير كتبغا أيضًا وحملت إليه الهدايا والتحف من الأمراء وغيرهم وكل ذلك لأجل خاطر كتبغا‏.‏

اصطلحت أيضًا معه المماليك الأشرفية على ما في نفوسهم منه من قتل أستاذهم بأمر كتبغا لهم وإلحاحه عليهم في ذلك حتى قبلوا كلامه‏.‏

وكانت مكافأة لاجين لكتبغا بعد هذا الإحسان كله بأن دبر عليه حتى أخذ الملك منة وتسلطن عوضه على ما يأتي ذكره وبيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم خلع السلطان على الصاحب تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد ابن الصاحب بهاء الدين علي بن حنا باستقراره في الوزارة بالديار المصرية‏.‏

ثم استهلت سنة أربع وتسعين وستمائة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد وسلطان مصر والشام الملك الناصر محمد بن قلاوون ومدبر مملكته الأمير كتبغا المنصوري‏.‏

ولما كان عاشر المحرم ثار جماعة من المماليك الأشرفية خليل في الليل بمصر والقاهرة وعملوا عملًا قبيحًا وفتحوا أسواق السلاح بالقاهرة بعد حريق باب السعادة وأخذوا خيل السلطان وخرقوا ناموس الملك وذلك كله بسبب ظهور الأمير حسام الدين لاجين وعدم قتله فإنه كان ممن باشر قتل أستاذهم الملك الأشرف خليل فحماه الأمير كتبغا ورعاه وأيضًا قد بلغهم خلع أخي أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون من السلطنة وسلطنة كتبغا فتزايدت وحشتهم وترادفت عليهم الأمور فاتفقوا ووثبوا فلم ينتج أمرهم‏.‏

فلما أصبح الصباح قبض عليهم الأمير كتبغا وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم وكحل البعض وقطع ألسنة آخرين وصلب جماعة منهم على باب زويلة ثم فرق بقية المماليك على الأمراء والمقدمين وكانوا فوق الثلاثمائة نفر وهرب الباقون فطلب الأمير زين الدين كتبغا الخليفة والقضاة والأمراء وتكلم معهم في عدم أهلية الملك الناصر محمد للسلطنة لصغر سنه وأن الأمور لابد لها من رجل كامل تخافه الجند والرعية وتقف عند أوامره ونواهيه‏.‏

كل ذلك كان بتدبير لاجين فإنه لما خرج من إخفائه علم أن المماليك الأشرفية لا بد لهم من أخذ ثار أستاذهم منه وأيضًا أنه علم أن الملك الناصر محمد متى ترعرع وكبر لا يبقيه لكونه كان ممن قتل أخاه الملك الأشرف خليلًا فلما تحقق ذلك أخذ يحسن للأمير كتبغا السلطنة وخلع ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون وسلطنته وكتبغا يمتنع من ذلك فلا زال به لاجين حتى حذره وأخافه عاقبة ذلك وقال له‏:‏ متى كبر الملك الناصر لا يبقيك البتة ولا يبقي أحدًا ممن تعامل على قتل أخيه الملك الأشرف وأن هؤلاء الأشرفية ما دام الملك الناصر محمد في الملك شوكتهم قائمة والمصلحة خلعه وسلطنتك‏.‏

فمال كتبغا إلى كلامه غير أنه أهمل الأمر وأخذ في تدبير ذلك على مهل‏.‏

فلما وقع من الأشرفية ما وقع وثب وطلب الخليفة والقضاة حسب ما ذكرناه ولما حضر الخليفة والقضاة اتفق رأي الأمراء والجند على خلع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من الملك وسلطنة كتبغا هذا عوضه فوقع ذلك وخلع الملك الناصر محمد من السلطنة وتسلطن كتبغا وجلس على تخت الملك في يوم خلع الملك الناصر وهو يوم الخميس ثاني عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة بعد واقعة المماليك الأشرفية بيومين وأدخل الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى الدور بالقلعة وأمره كتبغا بألا يركب ولا يظهر وكان عمره يوم خلع نحو العشر سنين‏.‏

وكانت مدة سلطنته في هذه المرة الأولى سنة واحدة إلا ثلاثة أيام أو أقل ويأتي بقية ترجمته في سلطنته الثانية والثالثة إن شاء الله تعالى‏.‏

السنة الأولى من سلطنة الملك الناصر محمد الأولى على أنه لم يكن له من السلطنة فيها إلا مجرد الاسم فقط وإنما كان الأمر أولًا للأمير علم الدين سنجر الشجاعي ثم للأمير كتبغا المنصوري وهي سنة ثلاث وتسعين وستمائة على أن الأشرف قتل في أوائلها في المحرم حسب ما تقدم ذكره‏.‏

فيها توفي الصاحب فخر الدين أبو العباس إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشيباني الإسعردي ثم المصري رئيس الموقعين بالديار المصرية ثم الوزير بها‏.‏

ولي الوزارة مرتين وكان مشكور السيرة قليل الظلم كثير العدل والإحسان للرعية وفي أيام وزارته سعى في إبطال مظالم كثيرة وكان يتولى الوزارة بجامكية الإنشاء وعندما يعزلونه من الوزارة يصبح يأخذ غلامه الحرمدان خلفه ويروح يقعد في ديوان الإنشاء وكأنه ما تغير عليه شيء وكان أصله من المعدن من بلاد إسعرد وتدرب في الإنشاء بالصاحب بهاء الدين زهير حتى برع في الإنشاء وغيره‏.‏

قال الذهبي‏:‏ رأيته شيخًا بعمامة صغيرة وقد حدث عن ابن رواح وكتب عنه البرزالي والطلبة انتهى‏.‏

وكان ابن لقمان المذكور فاضلًا ناظمًا ناثرًا مترسلًا ومات بالقاهرة في جمادى الآخرة ودفن بالقرافة ومن شعره‏:‏ الكامل كن كيف شئت فإنني بك مغرم راض بما فعل الهوى المتحكم ولئن كتمت عن الوشاة صبابتي بك فالجوانح بالهوى تتكلم أشتاق من أهوى وأعجب أنني أشتاق من هو في الفؤاد مخيم يا من يصد عن المحب تدللًا وإذا بكى وجدًا غدًا يتبسم أسكنتك القلب الذي أحرقته فحذار من نار به تتضرم وفيها قتل الأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الشجاعي المنصوري كان من مماليك الملك المنصور قلاوون وترقى حتى ولي شد الدواوين ثم الوزارة بالديار المصرية في أوائل دولة الناصر وساءت سيرته وكثر ظلمه ثم ولي نيابة دمشق فتلطف بأهلها وقل شره ودام بها سنين إلى أن عزل بالأمير عز الدين أيبك الحموي وقدم إلى القاهرة وكان مركبه يضاهي موكب السلطان من التجمل ومع ظلمه كان له ميل لأهل العلم وتعظيم الإسلام وهو الذي كان مشد عمارة البيمارستان المنصوري ببين القصرين فتممه في مدة يسيرة ونهض بهذا العمل العظيم وفرغ منه في أيام قليلة وكان يستعمل فيه الصناع والفعول بالبندق حتى لا يفوته من هو بعيد عنه في أعلى سقالة كان ويقال إنه يومًا وقع بعض الفعول من أعلى السقالة بجنبه فمات فما اكترث سنجر هذا ولا تغير من مكانه وأمر بدفنه ثم عمل الوزارة أيضًا في أوائل دولة الناصر محمد بن قلاوون أكثر من شهر حسب ما تقدم ذكره وحدثته نفسه بما فوق الوزارة فكان في ذلك حتفه وقتله حسب ما ذكرناه في أول ترجمة الملك الناصر هذا وفرح أهل مصر بقتله فرحًا زائدًا حتى إنه لما طافت المشاعلية برأسه على بيوت الكتاب القبط بلغت اللطمة على وجهه بالمداس نصفًا والبولة عليه درهمًا وحصلوا المشاعلية جملًا من ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذا غلط فاحش من المشاعلية قاتلهم الله‏!‏ لو كان من الظلم ما كان هو خير من الأقباط النصارى‏.‏

ولما كان على نيابة دمشق وسع ميدانها أيام الملك الأشرف فقال الأديب علاء الدين الوداعي في ذلك‏:‏ الكامل علم الأمير بأن سلطان الورى يأتي دمشق ويطلق الأموالا فلأجل ذا قد زاد في ميدانها لتكون أوسع للجواد مجالا قال الصلاح الصفدي‏:‏ أخبرني من لفظه شهاب الدين بن فضل الله قال‏:‏ أخبرني والدي عن قاضي القضاة نجم الدين ابن الشيخ شمس الدين شيخ الجبل قال‏:‏ كنت ليلة نائمًا فاستيقظت وكأن من أنبهني وأنا أحفظ كأنما قد أنشدت ذلك‏:‏ البسيط عند الشجاعي أنواع منوعة من العذاب فلا ترحمه بالله لم تغن عنه ذنوب قد تحملها من العباد ولا مال ولا جاه قال‏:‏ ثم جاءنا الخبر بقتله بعد أيام قلائل فكانت قتلته في تلك الليلة التي أنشدت فيها الشعر‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من الغرائب‏.‏

وقد ذكرنا من أحوال سنجر هذا في تاريخنا المنهل الصافي في نبذة كبيرة كونه كتاب تراجم وليس للإطناب لهؤلاء هنا محل‏.‏

انتهى‏.‏

وفيها توفي قتيلًا الملك كيختو ملك التتار قتله ابن أخيه بيدو‏.‏

قلت‏:‏ وهنا نكتة غريبة لم يفطن إليها أحد من مؤرخي تلك الأيام وهي أن سلطان الديار المصرية الملك الأشرف خليل بن قلاوون قتله نائبه الأمير بيدرا وملك التتار كيختو هذا أيضًا قتله ابن أخيه بيدو وكلاهما في سنة واحدة وذاك في الشرق وهذا في الغرب‏.‏

انتهى‏.‏

وملك بعد كيختو بيدو المذكور الذي قتله‏.‏

قلت‏:‏ وكذلك وقع للأشرف خليل فإن بيدرًا ملك بعمه يومًا واحدًا وتلقب بالملك الأوحد‏.‏

وعلى كل حال فإنهما تشابها أيضًا وكان بيدو الذي ولي أمر التتار يميل إلى دين النصرانية وقيل إنه تنصر لعنه الله ووقع له مع الملك غازان أمور يطول شرحها‏.‏

وفيها قتل الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن أبي الرجاء التنوخي الدمشقي التاجر المعروف بابن السلعوس قال الشيخ صلاح الدين الصفدي‏:‏ كان في شبيبته يسافر بالتجارة وكان أشقر سمينًا أبيض معتدل القامة فصيح العبارة حلو المنطق وافر الهيبة كامل الأدوات خليقًا للوزارة تام الخبرة زائد الإعجاب عظيم التيه وكان جارًا للصاحب تقي الدين البيع فصاحبه ورأى فيه الكفاءة فأخذ له حسبة دمشق ثم توجه إلى مصر وتوكل للملك الأشرف خليل في دولة أبيه فجرى عليه نكبة من السلطان فشفع فيه مخدومه الأشرف خليل وأطلقه من الاعتقاد وحج فتملك الأشرف في غيبته وكان محبًا له فكتب إليه بين الأسطر‏:‏ يا شقير يا وجه الخير قدم السير‏.‏

فلما قدم وزره وكان إذا ركب تمشي الأمراء الكبار في خدمته انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وكان في أيام وزارته يقف الشجاعي المقدم ذكره في خدمته فلما قتل مخدومه الملك الأشرف وهو بالإسكندرية قدم القاهرة فطلب إلى القلعة فأنزله الشجاعي من القلعة ماشيًا ثم سلمه من الغد إلى عدوه الأمير بهاء الدين قراقوش مشد الصحبة قيل‏:‏ إنه ضربه ألفًا ومائة مقرعة ثم تداوله المسعودي وغيره وأخذ منه أموالًا كثيرة ولا زال تحت العقوبة حتى مات في صفر‏.‏

ولما تولى الوزارة كتب إليه بعض أحبائه من الشام يحذره من الشجاعي‏:‏ الوافر تنبه يا وزير الأرض واعلم بأنك قد وطئت على الأفاعي وكن بالله معتصمًا فإني أخاف عليك من نهش الشجاعي فبلغ الشجاعي فلما جرى ما جرى طلب أقاربه وأصحابه وصادرهم فقيل له عن الناظم فقال‏:‏ لا أوذيه فإنه نصحه في وما انتصح وقد أوضحنا أمره في المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي بأطول من هذا‏.‏

انتهى‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي المقرىء شمس الدين محمد بن عبد العزيز الدمياطي بدمشق في صفر وقاضي القضاة شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خليل الخويي‏.‏

والسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون فتكوا به في المحرم‏.‏

ونائبه بيدرا قتل من الغد ووزيره الصاحب شمس الدين محمد بن عثمان بن السلعوس هلك تحت العذاب‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعًا وسبع أصابع‏.‏

وثبت إلى سادس عشر توت‏.‏

سلطنة الملك العادل زين الدين كتبغا هو السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا بن عبد الله المنصوري التركي المغلي سلطان الديار المصرية جلس على تخت الملك بعد أن خلع ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون في يوم الخميس ثاني عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة باتفاق الأمراء على سلطنته وهو السلطان العاشر من ملوك الترك بالديار المصرية وأصله من التتار من سبي وقعة حمص الأولى التي كانت في سنة تسع وخمسين وستمائة فأخذ الملك المنصور قلاوون وأدبه ثم أعتقه وجعله من جملة مماليكه ورقاة حتى صار من أكابر أمرائه واستمر على ذلك في الدولة الأشرفية خليل بن قلاوون إلى أن قتل وتسلطن أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وتسعين وأقام الناصر في الملك إلى سنة أربع وتسعين ووقع الاتفاق على خلعه وسلطنة كتبغا هذا فتسلطن وتلقب بالملك العادل وسنه يوم ذاك نحو الأربعين سنة وقيل خمسين سنة‏.‏

وقد تقدم سبب خلع الملك الناصر محمد وسلطنة كتبغا هذا في آخر ترجمه الملك الناصر محمد فلا حاجة في الإعادة وقال الشيخ شمس الدين بن الجزري قال‏:‏ حكى لي الشيخ أبو الكرم النصراني الكاتب قال‏:‏ لما فتح هولاكو حلب بالسيف ودمشق بالأمان طلب هولاكو نصير الدين الطوسي وكان في صحبته وقال له‏:‏ اكتب أسماء مقدمي عسكري وأبصر أيهم يملك مصر ويقعد على تخت الملك بها حتى أقدمه قال‏:‏ فحسب نصير الدين أسماء المقدمين فما ظهر له من الأسماء اسم من يملك الديار المصرية غير اسم كتبغا‏.‏

وكان كتبغا صهر هولاكو فقدمه على العساكر فتوجه بهم كتبغا فانكسر على عين جالوت فتعجب هولاكو من هذه الواقعة وظن أن نصير الدين قد غلط في حسابه‏.‏

وكان كتبغا هذا من جملة من كان في عسكر هولاكو من التتار ممن لا يؤبه إليه من الأصاغر وكسبه قلاوون في الواقعة فكان بين المدة نحو من خمس وثلاثين سنة حتى قدر الله تعالى بما قدر من سلطنة كتبغا هذا‏.‏

انتهى‏.‏

ولما تم أمر كتبغا في الملك وتسلطن مد سماطًا عظيمًا وأحضر جميع الأمراء والمقدمين والعسكر وأكلوا السماط ثم تقدموا وقبلوا الأرض ثم قبلوا يده وهنأوه بالسلطنة وخلع على الأمير حسام الدين لاجين وولاه نيابة السلطنة بالديار المصرية وولى عز الدين الأفرم أمير جاندار والأمير سيف الدين بهادر حاجب الحجاب ثم خلع على جميع الأمراء والمقدمين ومن له عادة بلبس الخلع وفي يوم الخميس تاسع عشر المحرم ركب جميع الأمراء والمقدمين وجميع من خلع عليه وأتوا إلى سوق الخيل وترجلوا وقبلوا الأرض ثم كتب بسلطنة الملك العادل إلى البلاد الشامية وغيرها‏.‏

وزينت مصر والقاهرة لسلطنته‏.‏

ولما كان يوم الأربعاء مستهل شهر ربيع الأول ركب السلطان الملك العادل كتبغا بأبهة السلطنة وشعار الملك من قلعة الجبل ونزل وسار إلى ظاهر القاهرة نحو قبة النصر وعاد من باب النصر وشق القاهرة حتى خرج من باب زويلة عائدًا إلى قلعة الجبل كما جرت العادة بركوب الملوك‏.‏

ولم تطل مدة سلطنته حتى وقع الغلاء والفناء بالديار المصرية وأعمالها ثم انتشر ذلك بالبلاد الشامية جميعها في شوال من هذه السنة وارتفع سعر القمح حتى بيع كل إردب بمائة وعشرين درهمًا بعد أن كان بخمسة وعشرين درهمًا الإردب وهذا في هذه السنة وأما في السنة الآتية التي هي سنة خمس وتسعين وستمائة فوصل سعر القمح إلى مائة وستين درهمًا الإردب وأما الموت فإنه فشا بالقاهرة وكثر فأحصي من مات بها وثبت اسمه في ديوان المواريث في ذي الحجة فبلغوا سبعة عشر ألفًا وخمسمائة وهذا سوى من لم يرد اسمه في ديوان المواريث من الغرباء والفقراء ومن لم يطلق من الديوان ورحل جماعة كثيرة من أهل مصر عنها إلى الأقطار من عظم الغلاء وتخلخل أمر الديار المصرية‏.‏

وفي هذه السنة حج الأمير أنس ابن الملك العادل كتبغا صاحب الترجمة وحجت معه والدته وأكثر حرم السلطان وحج بسببهم خلق كثير من نساء الأمراء بتجمل زائد وحصل بهم رفق كبير لأهل مكة والمدينة والمجاورين وشكرت سيرة ولد السلطان أنس المذكور وبذل شيئًا كثيرًا لصاحب مكة‏.‏

ثم استهلت سنة خمس وتسعين وستمائة وخليفة المسلمين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد الهاشمي البغدادي العباسي وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والشمالية والفراتية والساحلية الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري‏.‏

ووزيره الصاحب فخر الدين عمر ابن الشيخ مجد الدين بن الخليلي‏.‏

ونائب السلطنة بالديار المصرية الأمير حسام الدين لاجين المنصوري‏.‏

وصاحب مكة شرفها الله تعالى الشريف نجم الدين أبو نمي محمد الحسني المكي وصاحب المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عز الدين جماز بن شيحة الحسيني‏.‏

وصاحب اليمن ممهد الدين عمر ابن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر ابن علي بن رسول‏.‏

وصاحب حماة بالبلاد الشامية الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك المنصور محمد ابن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب‏.‏

وصاحب ماردين الملك السعيد شمس الدين داود ابن الملك المظفر فخر الدين ألبي أرسلان ابن الملك السعيد شمس الدين قرا أرسلان بن أرتق الأرتقي وصاحب الروم السلطان غياث الدين مسعود ابن السلطان عز الدين كيكاوس ابن السلطان غياث الدين كيخسرو بن سلجوق السلجوقي‏.‏

وملك التتار غازان ويقال قازان وكلاهما يصح معناه واسمه الحقيقي محمود بن أرغون بن أبغا بن هولاكو وهو مظهر الإسلام وشعائر الإيمان‏.‏

ونائب دمشق الأمير عز الدين أيبك الحموي المنصوري وكان الموافق لأول هذه السنة عاشر بابه أحد شهور القبط المسمى بالرومي تشرين الأول‏.‏

وقال الشيخ قطب الدين اليونيني‏:‏ وفي العشر الأول من المحرم حكى جماعة كثيرة من أهل دمشق واستفاض ذلك في دمشق وكثر الحديث فيه عن قاضي جبة أعسال وهي قرية من قرى دمشق أنه تكلم ثور بقرية من قرى جبة أعسال وملخصها‏:‏ أن الثور خرج مع صبي يشرب ماء من هناك فلما فرغ حمد الله تعالى فتعجب صبي وحكى لسيده مالك الثور فشك في قوله وحضر في اليوم الثاني بنفسه فلفا شرب الثور حمد الله تعالى ثم في اليوم الثالث حضر جماعة وسمعوه يحمد الله تعالى فكلمه بعضهم فقال الثور‏:‏ ‏"‏ إن الله كان كتب على الأمة سبع سنين جدبًا ولكن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أبدلها بالخصب وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتبليغ ذلك وقال الثور‏:‏ يا رسول الله ما علامة صدقي عندهم قال‏:‏ أن تموت عقب الإخبار قال الحاكي لذلك‏:‏ ثم تقدم الثور على مكان عال فسقط ميتًا فأخذ الناس من شعره للتبرك وكفن ودفن انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الحكاية غريبة الوقوع والحاكي لها ثقة حجة وقد قال‏:‏ إنه استفاض ذلك بدمشق انتهى‏.‏

وأما أمر الديار المصرية فإنه عظم أمر الغلاء بها حتى أكل بعضهم الميتات والكلاب ومات خلق كثير بالجوع‏.‏

والحكايات في ذلك كثيرة وانتشر الغلاء شرقًا وغربًا‏.‏

وبينما السلطان الملك العادل كتبغا فيما هو فيه من أمر الغلاء ورد عليه الخبر في صفر بأنه قد وصل إلى الرحبة عسكر كثير نحو عشرة آلاف بيت من عسكر بيدو ملك التتار طالبين الدخول في الإسلام خوفًا من السلطان غازان ومقدمهم أمير اسمه طرغاي وهو زوج بنت هولاكو فرسم الملك العادل إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري بأن يسافر من دمشق إلى الرحبة حتى يتلقاهم فخرج إليهم ثم خرج بعده الأمير سنقر الأعسر شاد دواوين دمشق ثم ندب الملك العادل أيضًا الأمير قراسنقر المنصوري بالخروج من القاهرة فخرج حتى وصل إلى دمشق لتلقي المذكورين ورسم له أن يحضر معه في عوده إلى مصر جماعة من أعيانهم فوصل قراسنقر إلى دمشق وخرج لتلقيهم ثم عاد إلى دمشق في يوم الاثنين ثالث عشرين شهر ربيع الأول ومعه من أعيانهم مائة فارس وثلاثة عشر فارسًا وفرح الناس بهم وبإسلامهم وأنزلوهم بالقصر الأبلق من الميدان‏.‏

وأما الأمير علم الدين سنجر لدواداري فبقي مع الباقين وهم فوق عشرة آلاف ما بين رجل كبير وكهل وصغير وامرأة ومعهم ماشية كثيرة ورخت عظيم وأقام قراسنقر بهم أيامًا ثم سافر بهم إلى جهة الديار المصرية وقدموا القاهرة في آخر شهر ربيع الآخر فأكرمهم السلطان الملك العادل كتبغا ورتب لهم الرواتب ثم بدا للملك العادل كتبغا السفر إلى البلاد الشامية لأمر مقدر اقتضاه رأيه وأخذ في تجهيز عساكره وتهيأ للسفر وخرج بجميع عساكره وأمرائه وخاصكيته في يوم السبت سابع عشر شوال وسار حتى دخل دمشق في يوم السبت خامس عشر ذي القعدة وخامس ساعة من النهار المذكور ودخل دمشق والأمير بدر الدين بيسري حامل الجتر على رأسه ونائب سلطنته الأمير حسام الدين لاجين المنصوري ماشيًا بين يديه ووزيره الصاحب فخر الدين بن الخليلي واحتفل أهل دمشق لقدومه وزينت المدينة وفرح الناس به‏.‏